13‏/08‏/2015

مسلسل هندي



 ربما يظن البعض أن عنوان المقال رمزي تختفي خلفه مقاصد سياسية، والحقيقة أن ما يحدث في بلدنا تعدى مرحلة «الفيلم الهندي» كما نقول دائمًا. كما أنني مللت الحديث عن أمور ما عدت أجد جدوى من التحسر عليها أو الثورة عليها. لكن الواقع أن العنوان هو مقدمة لما سأتحدث عنه بالفعل؛ مسلسل هندي صادفته على قناة mbc bollywood وجذبتني الحالة التي تعكسها قصته. إنه مسلسل Iss Pyaar Ko Kya Naam Doon? «ماذا أسمي هذا الحب؟» أو كما سميت نسخته المدبلجة «من النظرة الثانية».

قصة رومانسية تعكس حالة من الحب والجنون في قالب هندي يعكس كل ما في ثقافة هذا البلد العريق. والحالة التي يعكسها المسلسل تذكرني بتلك الحالة التي أعيشها كلما شاهدت فيلمًا مصريًا قديمًا «أبيض واسود». حالة افتقدتها في جُلِّ مسلسلاتنا اليوم؛ فأعمال اليوم تتلخص في اسم البطل والبطلة بصرف النظر عن أحداث القصة، أما أحداث القصة فلا شيء مميز فيها إلا ما ندر، فلا هي تعكس واقعًا معاصرًا مريرًا يجسد حقيقة حياة معظم المشاهدين، ولا هي تعكس ثقافة هذا البلد العريق كما كانت تتجسد في أعمال العمالقة نجيب محفوظ وأسامة أنور عكاشة ومحمد جلال عبد القوي ومحمد صفاء عامر، وكي أكون منصفة فإن آخر الأعمال الواقعية غير المبتذلة كان مسلسل «ذات» للرائع صنع الله إبراهيم.

هذه الحالة الفريدة التي وجدتها في هذا المسلسل الهندي دفعتني لاعتزال كل الأعمال الرمضانية هذا العام ومتابعة النسخة المترجمة منه عبر الإنترنت. ولا أخفي عليكم أنني شعرت في البداية بشيء من الضيق لأن المسلسل من 400 حلقة إلا حلقتين؛ لكن هذا الضيق زال بمجرد متابعتي لأحداث ما بعد الحلقات المدبلجة التي أذيعت على قناة mbc bollywood والتي لم أتابع منها إلا القليل. فحلقات المسلسل الهندي المترجمة لا تأخذ من وقتك سوى ثلث ساعة، الأمر الذي يسمح لك بمشاهدة عدة حلقات في ساعتين أو ثلاثة، هذا بالإضافة إلى أن أحداث القصة الشيقة وطريقة تصويرها وتجسيدها وإخراجها تجعلك لا تملك إلا أن تشاهد حلقة تلو الأخرى دون ملل.

لست هنا في معرض الحديث عن تفاصيل قصة المسلسل التي بها بعض المبالغات والأخطاء التي لا يخلو منها عمل درامي، لكني أتحدث هنا عن الحالة التي عكستها كل حلقة منه؛ فالمسلسل يدور في إطار رومانسي اجتماعي حول قصة حب بين شاب ثري وفتاة متوسطة الحال، تمتزج فيها أفكار عدة ذكرتني تارة برواية Pride and Prejudice للروائية العظيمة جين أوستن، وتارة بمسرحية شكسبير The Taming of the Shrew أو ترويض النمرة، بيد أن القصة في الحقيقة كانت ترويضًا للطرفين «النمر والنمرة». لكن الشيء الواضح في هذا المسلسل هو الثقافة الهندية الفريدة التي لم يؤثر فيها الاحتلال الإنجليزي بشكل يطمسها، بل إن ثقافة الهند ذات جذور عميقة، كما أن البصمة الشرقية واضحة وضوح شمس النهار في هذا المسلسل؛ حيث تجد الأزياء الهندية بألوانها البديعة التي تدخل البهجة إلى قلبك بصرف النظر عن الأحداث، كما تجد تصفيفة الشعر الأنثوية الهندية المميزة، والعادات والتقاليد الهندية، والأعياد والمناسبات الهندية، والرقصات الهندية التي تطرب الروح، والألحان الهندية ذات الإيقاع الحيوي الذي يدفعك دفعًا لتكرار سماعها، كل ذلك في قالب اجتماعي أبدع فيه المؤلف والمخرج وطاقم التمثيل وطاقم العمل ككل.

وإذا تحدثت هنا عن طاقم التمثيل فلا أملك إلا أن أسجل إعجابي بكل مشهد أداه أفراد لم يكونوا قبل هذا العمل من أهل الشهرة في بوليوود، لكنهم صنعوا نجوميتهم ببراعتهم في هذا العمل. فالفنان بارون سوبتي المعروف باسم «أرناف» استطاع أن يجسد ببراعة دور رجل الأعمال الواثق من ذاته والمنطوي على نفسه، والبعيد كل البعد عن الاجتماعيات التي لا يراها إلا شكليات، الذي يمنعه كبرياؤه عن الاعتراف بمشاعره قبل أن يحوله الحب تدريجيًا إلى شخص أكثر انفتاحًا وأوسع صدرًا مع احتفاظه بطابعه المتحفظ الصارم. أما سانايا إيراني والمعروفة باسم «كوشي»، تلك الفتاة الشعبية البسيطة، فقد أبدعت وأبدعت وأبدعت في التعبير عن مزيج من مشاعر متباينة؛ أبدعت في مرحها، أبدعت في جنونها، أبدعت في رومانسيتها، أبدعت في براءتها وسذاجتها، أبدعت في حزنها وفي فرحها وفي قلقها، باختصار، فإن سانايا إيراني أبدعت في أنوثتها وجسدت معنى اسمها في المسلسل «السعادة».

وحين أتحدث عن عمل ما، فإنني أمقت أن أختصره في البطل والبطلة، فالعمل لا يقوم عليهما وحدهما، وإذا لم يكونا ضمن فريق متكامل ناجح لن تكتب لموهبتهما النجاح مهما حاولا الإبداع في أدائهما. والحقيقة أن المسلسل الهندي لم أجد به ممثلاً واحدًا لم يتقن دوره، فالمسلسل تجسيد لروح الفريق. وربما ينبغي علي أن أبدأ بكبار السن الذين لم يكن وجودهم في العمل لمجرد تكريمهم كما يحدث في بعض الأعمال الحالية مع غض الطرف عن إبداعهمبعد أن يخفت ضوؤهم مع تقدمهم في السن. كبار السن في هذا المسلسل تم تقديمهم في إطار غاية في الإبداع والرقي والاحترام، يدفعك لتوقيرهم ولمس أقدامهم كما يفعل أهل الهند لتحيتهم ونيل بركاتهم، وهذا الأمر ينطبق على خالة وزوج خالة «كوشي» أو عمتها، وعلى جدة أرناف لأمه، وحتى على جدته لأبيه بقسوتها المستمدة من مشاعرها الغاضبة منذ انتحار ابنها.

أنتقل بعد ذلك إلى الشخصية الشريرة في هذا المسلسل، والتي كانت عبر ما يزيد عن ثلاثمئة حلقة ترتكز على شخصية «شيام» الذي استطاع أن يعيد إلي براءة مشاعري حين كنت طفلة أكره «الشرير» في الحقيقة كما أكره دوره في العمل السينمائي أو الدرامي الذي أداه. هذا الشعور الطفولي الذي نسيته مع التقدم في العمر وفهم الأمور على حقيقتها. عاد إلي هذا الشعور مرة أخرى مع هذا الفنان الرائع، رغم مبالغته في الشر مبالغة تمتاز بها الأعمال الهندية ولا تقلل من قيمتها الكلية، لأن العبرة في العمل هو الشكل العام. ضحكته الشريرة التي تشبه ضحكة أبي لهب في أفلامنا التاريخية، ونصف ابتسامته التي تذكرك بالشخصيات المخادعة في مسلسلات الكارتون القديمة، نظرة عينيه، تحول وجهه من الخبث ليرسم على وجهه البراءة متبعًا أسلوب الحرباء، كل مشهد جسده في هذا المسلسل يكشف عن موهبة متفجرة ربما ستكون علامة في الفن الهندي في المستقبل.

ويستمر حديثي عن طاقم التمثيل مع الفنانة دالجيت كور التي أدت دور شقيقة أرناف «أنجالي» المحبة البريئة المتدينة الساذَجة، التي تتعمد تجاهل مرارة الواقع كي تعيش في عالم أحلامها النقي الذي رسمته لنفسها بعيدًا عن قسوة وطأة الخيانة على مشاعرها الرقيقة. كما أبدعت زوجة خالها «العمة مانورما» التي جسدت شخصية لا تخلو عائلة منها؛ المرأة الناقدة وأم الزوج «لحماة» التي تنشب أظفار غيرتها في جسد من تراها خطفت ابنها الوحيد منها، وهي في ذات الوقت مهتمة بزينتها مبتعدة عن كل ما يرهق جسدها. شخصية واقعية ينطبق عليها المصطلح المصري «عايقة ومتضايقة».

ناند كيشور الشهير بـ«ناني»، أصغر فرد في عائلة رايزادا؛ من ألطف الشخصيات في هذا العمل، شاب أقرب للطفولة في براءته وطيبة قلبه وخفة دمه، ودوره كان محركًا رئيسًا لأرناف كي يسعى نحو حبه، كما أن لغته الهندية الركيكة في المسلسل، كانت لمحة رائعة من كاتب القصة؛ حيث ضرب بها عصفورين بحجر واحد، فأخطاؤه المتكررة في اللغة صنعت مشاهد كوميدية كما قدمت الكلمات المتشابهة في اللغة الهندية بشكل سلس دونما تكلف، في نموذج قدير لتقديم اللغة من خلال عمل درامي واحد. أما أخت كوشي والمعروفة باسم «بايال» وحبيبها ابن عم أرناف أكشاي دوجرا والمعروف باسم «أكاش»، فكلاهما نجح في تجسيد دور الشخصية الهادئة المحبة الرقيقة التي لا تعرف الخداع ولا التعقيدات في الحياة.

طاقم التمثيل لم يكن وحده المبدع، فلولا الإبداع في الإضاءة والتصوير والموسيقى التصويرية والأغاني والأزياء والإخراج لما كانت لهذا المسلسل سمته الخاصة التي تدفعك دفعًا لمتابعة كل تفصيلة فيه، فكل حلقة لا تخلو إما من مشهد حب أو أغنية رقيقة أو رقصة مرحة دون أن تجد مشهدًا مقززًا أو موسيقى صاخبة تؤذي أصحاب الأذن السليمة أو رقصة تثير الغرائز. المشاهد الرومانسية في المسسل لا يوجد بها مشهد جنسي واحد ولا حتى قبلة مثيرة تخدش حياء المشاهد، ورغم ذلك لا تملك إلا أن تشعر كل ذرة في روحك بجمال كل مشهد مهما بلغ قصره أو بلغت بساطته، بل إن كل مشهد رومانسي بموسيقاه البديعة يعيدك إلى أفلام الأبيض والأسود، إلى حب الزمن الجميل الذي يذكرني بما قالته حنان ماضي في أغنيتها: «فاكر يا شباكنا .. لما الهوى شبكنا .. النظرة تسحرنا.. واللمسة تربكنا». ذلك الحب الروحي البريء الذي ما عدنا نجده في ظل ثقافة عصر السرعة والتيك أواي حتى ما عدنا نشعر بواقعية أي مشهد رومانسي لخلوه من الرومانسية الحقيقية المنبثقة من حب حقيقي يشعر به الممثل أو الكاتب. الحب الذي يجعل الحبيب يشعر بحبيبه مهما بعدت المسافة ومهما كانت الحالة، ويتأثر بنظرة أو بسمة أو لمسة.

وبعيدًا عن الدوبلاج الذي يشوه المشاعر الحقيقية والثقافة الحقيقية لأي عمل، ومع رغبتي الحقيقية في أن يستجيب المسئولون عن دبلجة هذه الأعمال ويتركوا المساحة لمشاهدته تارة بالدوبلاج وتارة بالترجمة لتناسب كافة الأذواق، لكن خلاصة القول أن حالة هذا المسلسل بشكل عام أثارت إعجابي وغيرتي في الوقت ذاته؛ فالمسلسل استطاع جذب اهتمامي لكل ما يتعلق بالهند؛ حتى صارت لدي رغبة حقيقية في زيارة هذا البلد الجميل والتعرف على ثقافته عن كثب رغم ما يعانيه هذا البلد من مشاكل كثيرة أبرزها الفقر.هذا الأمر أثار غيرتي في الواقع كلما قارنت هذا العمل بأي عمل مصري أو عربي معاصر، فجل الأعمال إن توفر في أحدها عنصر من عناصر المسلسل الهندي فقد عناصر أخرى مهمة، فجمال الموسيقى قد يجذبك إلى البحث عن مقطوعات المسلسل دون متابعته، وجمال القصة لا يعني بالضرورة أن أبطالها استطاعوا إقناعك، لاسيما في القصص الرومانسية، ولكي لا أظلم الفن المصري، فإن هناك بعض الأعمال القليلة التي يمكن أن يطلق عليها أعمال متكاملة لكنها ليست في النطاق الرومانسي الذي يثير فيك روح الجمال والهدوء والرقة والعذوبة، وليس من بين تلك الأعمال «التي تعد على أصابع اليد الواحدة» عمل يشجع غير المصريين على زيارة مصر والتعرف على ثقافتها.

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم نعد نقدم أعمالاً تبرز جمال تراثنا وثقافتنا وفننا؟! أين الأعمال التي تقدم ألحانًا مصرية فريدة كتلك التي تربينا عليها في مسلسل المال والبنون والضوء الشارد وغوايش والمصراوية والكيت كات؟! أين تلك الأعمال التي تقدم لنا الرقص المصري الشعبي كتلك الرقصات التي قدمتها فرقة رضا؟! أين الأعمال التي تقدم فقراء هذا البلد والمهمشين وأهل المناطق الشعبية والعشوائية في شكل يخلو من الابتذال وتشويه السمعة، علمًا بأن العمل الوحيد الذي قدم هذه الصورة بشكل مشرف كان مسلسل «ابن حلال»؟!أين الأعمال الواقعية التي تقدم المواطن المصري الطبيعي غير المصطنع، من قبيل مسلسل «ذات»؟! أين الأعمال التي تبرز الأماكن السياحية في مصر بشكل حضاري بعيدًا عن الأساليب التعليمية في التعريف بآثارنا؟! أين الأعمال التي تبرز مواطن الجمال في ربوع البلاد من بحار وأنهار وجبال وشلالات؟! أين الأعمال التي تقدم ديننا بشكل مدمج في الأحداث مثل مسلسل الخواجة عبد القادر، دون توجيه صريح ودون جهل كاتب بتفاصيل الدين والآيات، ودون خطبة أزهري أو وعظ قسيس؟! كيف استطاع مسلسل هندي واحد أن يجمع بين كل هذه العناصر، ولم تستطع كل مسلسلاتنا التي تعد بالعشرات في كل موسم رمضاني أن تنقل مثل هذه الصورة عنا بشكل مشرف؟!

لست من المفتونين بالثقافات الأخرى، وما دعاني لكتابة هذا المقال هو رغبتي الحقيقية في التعبير عن إعجابي بهذا المسلسل البديع من جهة، ودق ناقوس الخطر للمسئولين عن الفن المصري من جهة أخرى.كلي أمل أن يسعى أهل الثقافة والغيورون على فننا لبحث افتتاح قناة تقدم الفن المصري للهندـ كما أنشأنا قناة تقدم كل ما هو هندي للعرب.فلم نهتم بمعرفة ثقافتهم ولا نهتم بنشر ثقافتنا؟! أين التبادل الثقافي الحقيقي بين الدول؟! لم لا نترجم الأعمال المصرية القديرة من أفلام ومسلسلات – قديمة وحديثة- إلى اللغة الهندية والتركية ونقدمها من خلال قناة مصرية أو عربية؟! لم اقتصرت القنوات على الأخذ من الثقافات الأخرى ما بين المسلسلات الهندية والتركية والأمريكية وكأننا نعترف بأننا – بكل أعمالنا وإمكاناتنا- نفتقر إلى ما لديهم؟! لم لا توجد قناة مصرية أو عربية واحدة في أي من هذه الدول تقدم لهم ما يقدمونه لنا؟! متى يشعر الفنان المصري والمثقف المصري والكاتب المصري بقيمته ويتحمل مسئولية نقل ثقافة بلده ونشرها هنا وهناك؟! متى يفرض الفن المصري وجوده بين أهل المشرق والمغرب؟! متى ينسى كل مسئول مقولة «احنا أحسن من سوريا والعراق» ويتعامل مع مصر على أنها «أم الدنيا»؟!

مساء الأربعاء

12 أغسطس 2015م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق