03‏/06‏/2014

الإعلام العسكري


الإعلام هو غذاء العقل الجمعي للشعوب في كل مكان. فهو كالطعام والشراب، لابد منه لاستمرار الحياة المجتمعية. والمرء بفطرته يتناول ما يُقدَّم إليه من طعام؛ فإن كان الطعام صالحًا أو فاسدًا ظهر ذلك جليًا على حالته الصحية، والأمر كذلك فيما يتعلق بالإعلام الذي تستقي منه الشعوب اتجاهها العام، فإما أن يكون الإعلام سببًا في ارتقاء الفكر العام أو سببًا في تسميمه وإفساد آليته. وكثير منا يعلم أن الفلسفة الصهيونية هي التي تحكم وتتحكم في توجهات الإعلام العالمي بشكل عام والأمريكي بشكل خاص؛ فهي تبرز قضية ما وتخفي أخرى، وتصب التوجه العام للشعب الأمريكي في اتجاه ما في وقت محدد، وتبعده عن هذا التوجه في وقت آخر لتشغله بقضية أخرى. ولكلٍ وقته المناسبَ في المجالِ المناسب. وهذا أمرٌ يمكن لمفكري العرب والغرب ملاحظته بضوح، فلا يخفى عليهم ما يفعله الإعلام حين يلقي الضوء على قضية ما كي يشد انتباه الجمهور بعيدًا عن قضايا أخرى ستضر بمصالحَ  من في يدهم مقاليد الحكم إذا ما انتبهت إليها الشعوب.

الأمر ذاته يحدث في مصر ولكن على نطاق محلي؛ أي أن الذي يتحكم في الإعلام المصري هو القبضة العسكرية المصرية، وذلك منذ تقلد العسكريين لمقاليد الحكم في يوليو عام 1952م. تلك القبضة العسكرية التي استطاعت أن تزيل اسم أول رئيس منها من خلال الإعلام الذي تتحكم فيه بمختلف أدواته المكتوبة والمسموعة والمرئية، وحتى من كتب التعليم، حتى جهل معظم الجيل الصاعد وقتها وحتى الآن شخصَ محمد نجيب وانجازاته ومصيره كأول رئيس يحكم مصر بعد يوليو 52. إنها ذات القبضة العسكرية التي جعلت من نشيد "ناصر كلنا بنحبك.. ناصر وحنفضل جنبك.. ناصر ونعيش ونقولك..  ناصر يا حبيب الكل يا ناصر" وِردًا يوميًا يردده طلبة المدارس في طابور الصباح إبان حكم الرئيس جمال عبد الناصر. وهي ذات القبضة العسكرية التي سمحت للإعلام بمختلف أدواته نشر سلبيات عصر عبد الناصر بعد وفاته. القبضة العسكرية التي أطلقت اسم "انتفاضة حرامية"على ثورة الخبز التي اندلعت بسبب قرار رفع الأسعار في عصر السادات، هي ذاتها القبضة العسكرية التي منعت إذاعة أغنية "أخي جاوز الظالمون المدى" بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد. القبضة العسكرية هي التي جعلت من جماعة الإخوان المسلمين جماعة ظالمة في عصر عبد الناصر، وجماعة مظلومة في عصر السادات. هي ذات القبضة التي ترفع البعض تارة وتخفضهم تارة أخرى لأسباب تتعلق بضمان إحكام تلك القبضة على أمور الحكم.

والأمر لا يختلف اليوم عن الأمس؛ فالقبضة العسكرية التي جعلت جماعة الإخوان في عصر مبارك جماعةً محظور الحديث عنها إلا في إطار محدود، هي ذاتها القبضة التي سلمت مقاليد الحكم للجماعة بعد ثورة يناير. القبضة العسكرية التي أدخلت الأخوين الزمر في السجن وأبقت عليهما، هي ذاتها القبضة التي سمحت لهما بالخروج بعد ثورة يناير. القبضة التي تركت محمود سعد في قنوات الدولة الرسمية هي ذاتها القبضة التي ضربته على يده حين رفض اللقاء بشفيق وكانت عقوبته محاولة تقليص شعبيته من خلال فضح المبلغ الذي يتقاضاه من القناة نظير عمله بها، وهي القبضة ذاتها التي تركته مرة أخرى يتحدث كيفما يشاء طالما أنه لم يُغضب "أبو الغضب". القبضة التي كادت أن تطبق أصابعها حول عنق يسري فودة حين وقف في وجهها هي ذاتها القبضة التي أرسلت له طائرة حين أصيب بحادث في عصر مرسي. القبضة التي سمحت للسلفيين بفتح قنوات دعوية وكانت بوقًا للنظام العسكري ضد الثورة إبان فترة المجلس العسكري ومرسي هي ذاتها القبضة التي أغلقت تلك القنوات حين انتهى دورها واكتشفت فجأة أنها قنوات تحض على الكراهية والعنف! القبضة العسكرية التي جعلت من باسم يوسف خائنًا بعد الثورة، هي ذاتها التي جعلت منه بطلًا في عصر مرسي، ثم أراجوزًا في عصر ما بعد مرسي. القبضة التي رأت باسم يوسف كإعلامي "قليل الأدب" في عصر طنطاوي وما بعد مرسي هي ذاتها التي كانت تبتسم وتقهقه تعليقاته في عصر مرسي والتي استخدم فيها نفس الفلسفة التي كان مغضوبًا عليها.

الإعلام في مصر ما هو إلا بوق للنظام الحاكم، ولكنه منذ يوليو 52 صار بوقًا للقبضة العسكرية؛ تصفق للنظام إذا ما كان على هواها، وتترك الساحة للمعارضة إذا كان الحكم على غير هواها. القبضة العسكرية تعطي "ألمايكروفون" لمعارضيين حقيقيين إذا كان في مقالتهم ما من شأنه تحقيق مبتغاها، وهي ذات القبضة التي تطبق أصابعها حول عنق أي معارض يقول ما من شأنه زعزعة نظامٍ يسير وفق هواها أو بأمر منها، وبدلًا من تلك المعارضة "الشريرة" تصنع لنا تلك القبضة معارضة صلصالية صورية تستعين بها من وقت لآخر كي تثبت أنها دولة ديمقراطية لا تكمم أفواه المعارضة ولا تقمع الحريات.

أعلم أن البعض سيستغل كلماتي التي افتتحت بها مقالي كدلالة على أنني أشبه القبضة العسكرية المصرية بالقبضة الصهيونية وأنني أساوي بين هذا وذاك، وحاشاي أن أجمع بينهما، فذلك تشبيهٌ لفلسفة إحكام القبضة التي استخدمها كلا الفريقين، وليس من باب تشبيه فريق بالآخر. كما سيستغل البعض كلامي عن تضارب طريقة التعامل مع الإخوان من رئيسٍ لآخر، كدلالة على تعاطفي مع هذه الجماعة التي لا أراها إلا جماعة بُنيت على باطل فحكم عليها بالبطلان. وأسجل رأيي في الجماعة ههنا كي لا يصطاد في الماء العَكِرِ بعضٌ من مَرضَى الفكر؛ فرأيي كان ولا يزال هو أن الإخوانَ جماعةٌ أذت غيرها بفكرها فأذاها غيرها بقمعها، ظلمت نفسها قبل أن يظلمها غيرها، ثم أُعطيت الفرصة كي تتحرر من هذا الظلم الذي كان واقعًا عليها فإذا بها تكرر أخطاءها مع تطور في الأداء وسرعة في الإيقاع، فهوت بنفس سرعة صعودها وفسادها. أما عن حديثي عن الرؤساء فأنا لست بصدد عرض رأيي في من ذكرت أسماءهم، وإنما هو تسجيل لوقائع حدثت في عصرهم وسطرها التاريخ. أي أنني لم أبدِ رأيي في أحدهم وإنما جمعت وقائع لم أختلقها. كما إنني لست هنا بصدد تحريض القارئ ضد نظام الحكم – لا سمح الله – ولا بصدد ترديد شعارات مثل »يسقط حكم العسكر« وما شابهها، ليس خوفًا ولا نفاقًا ولكنني مللت ترديد شعارات لن تطبق على أرض الواقع مهما صحت بها بأعلى صوتي، كما إنني لا أرى الحل في سقوط حكم العسكر لمجرد سقوطه، فلو عدل الحاكم مهما كانت خلفيته عسكرية أو دينية أو علمانية أو مدنية لما ثار عليه عاقل، ولكن الثورة تولد من رَحِم المظالم.

إنني أطلب من كل عاقل أن يتأنى في حكمه على الأحداث، ولا يحكم عليها بشكل ظاهري، وأن يحاول أن يقرأ ما بين السطور في القرارات الصادرة من هذا أو ذاك، فالأمر ليس كما يبدو للجميع. إننا جميعًا محكومون بسياسة عليا لدولة عميقة تتخفى تحت ستار دولة تبدو للساذَج دولة ديمقراطية. فأرجوكم حاولوا ألا تجعلوا من شخص ما بطلًا ولا خائنًا دون محاولة لفَهم ما وراء الأحداث وما بين السطور. وأرجوكم ألا توزعوا صكوك الوطنية أو العِمالة على أحد؛ فليس من حق أحد أن يرفع من شأن أحد أو يخونه دون دليل واضح وضوح الشمس، والشمس لم تعد تشرق في بلادنا هذه الأيام؛ فنحن جميعًا نعيش في وطنٍ يخيّم عليه ضبابٌ لا نعرف متى ينقشع. وحتى ذلك الحين دعونا نعمل بفلسفة الإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه وأرضاه حيث قال:  »أحبِبْ حبيبَك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضَك يومًا ما، وأبغِض بغيضَك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما «.

صباح الثلاثاء
2 يونيو 2014م
5 شعبان 1435هـ