12‏/10‏/2011

الكاتدرائية رايح جاي



كان يوماً عظيماً من أيام مصر .. ليست حرباً انتصرنا فيها على عدو .. ولكنها مسيرة تجلت فيها أجمل معاني الحب والإخاء .. إنها مسيرة العباسية التي انطلقت في العاشر من شهر أكتوبر من أمام الكاتدرائية المرقسية للتنديد بالمجزرة التي تم ارتكابها بشأن متظاهري ماسبيرو والذين كان غالبيتهم من المسيحيين الذي جاءوا ليطالبوا بإعادة بناء الكنيسة التي تم هدمها من قبل بعض الجهلة الذين ظنوا أنفسهم يد الله في الأرض أو يد قانون لا يعرفون منه سوى اسمه.
بدأت رحلتي من أمام الكاتدرائية المرقسية بالعباسية حوالي الساعة الثالثة .. كان بعض الشباب قد تطوعوا لتنظيم دخول المصلين وكانوا يطالبون كل من يدخل برفع يده حتى يشاهدوا الصليب لأن هذه كنيسة للصلاة وليست ساحة للتظاهر .. ولم يدخل من المسلمين سوى الصحفيين أو الصحفيات .. في الحقيقة لم أشأ دخول الكنيسة احتراماً للموقف ؛ لكي أفسح المجال لمن أتى للصلاة .. فهم أولى مني بالدخول وليس من الجيد أن أتزاحم معهم من أجل سبق صحفي أو تسجيل مع أناس يؤدون شعائرهم الدينية.
انتظرت حوالي نصف ساعة أو تزيد حتى سمعت صوت هتافات تخرج من داخل الكنيسة ، وكانت هذه هي اللحظة التي أنتظرها .. خرجت جموع غفيرة ما كنت أتخيل أن الكنيسة تستوعبها .. خرجت ومن بينهم كانت رؤوس الفتيات المحجبات بارزة تهتف معهم بصوت واحد ورحت أهتف مع الجميع: "يا نجيب حقهم.. يا نموت زيهم" .. كان هذا هو الهتاف الرئيسي الذي خرجنا به من محيط الكنيسة في طريقنا إلى المستشفى القبطي .. أخدنا نسير جنباً إلى جنب .. وبرغم الغالبية المسيحية التي أسير وسطها لم أشعر بالغربة .. كان الكل ينظر إلي نظرة محبة وإخاء وتأبى شفاههم البسمة كما يأباها حزني وغضبي ونحن في مسيرة جنائزية كهذه .. كانت جموع غفيرة تقدر بالآلاف إلا أنني لا أملك مهارة تحديد العدد .. كنا نهتف بصوت واحد وبرغم الغالبية المسيحية لم أسمع هتافاً طائفياً أو يخص المسيحين وحدهم باستثناء هتافين رددوهما قليلاً "بالروح .. بالدم .. نفديك يا صليب" و "ارفع راسك فوق انت قبطي" .. وكنت أردد الهتاف الأخير معهم حيث إنني أعتبر نفسي كبقية المصريين قبطية .. فكلمة قبطي لا تشير إلى ديانة وإنما كانت تطلق قديماً على أهل مصر جميعاً ومنها جاءت كلمة مصر بالانجليزية، أما بقية الهتافات فكانت للوحدة الوطنية ولسقوط العسكر والمشير وللمطالبة بأخذ الثأر من القتلة .. وكان من بين تلك الهتافات: "مسلم ومسيحي ايد واحده" ، "لينا اخوات مسلمين .. ع اللي بيحصل مش راضيين" و "يسقط يسقط حكم العسكر .. احنا الشعب الخط الأحمر" .
كنا نسير سيراً لا أستطيع أن أقول عنه إنه سير بطيء إلا أنه جعل المتظاهرين ينقسمون إلى نصفين تقريباً مما دفعنا إلى التوقف حتى نعط الفرصة للمتأخرين لللحاق بنا .. وفوجئت وأنا في سيري بالناشطة السياسية "نوارة نجم" وسرنا معاً .. كان يبدو عليها الإجهاد إلا أن هذا لم يمنعها من أن تنبري بهتافات رددها وراءها المتظاهرون كانت تتبلور حول فكرة تعنت العسكر وعنفهم مع بني وطنهم في الوقت الذي لا نسمع لهم صوتاً عند الحدود ولم نر لهم ردة فعل مشرفة للأخذ بالثأر ممن قتل جنودنا هناك ، كما هتفت بسقوط المشير والمجلس العسكري وطالبت بالثأر لمن قُتل يوم التاسع من أكتوبر. وكان إلى جوارنا أيضاً سيدة مسيحية نحيفة كان ترتدي الأسود ويبدو عليها التأثر كما لو كانت من أهل أحد شهداء ماسبيرو .. كانت تنتحب وتهتف بصوت مبحوح: " وحياة دمك يا شهيد .. لالبس اسود من جديد". في الحقيقة لم أكن أرتدي الأود .. فقد فضلت أن أرتدي حجاباً بألوان علم مصر وكان اللون الرئيسي فيها هو الأحمر في دلالة على الدماء التي كنا وما زلنا نبذلها في سبيل تحقيق حلمنا الثوري "عيش.. حرية .. عدالة اجتماعية".
أكملنا السير بنفس الحماسة وفي وسط الطريق كان على الجهة الأخرى من الشارع تسير السيارات بعضها كان يحيينا بمزمار سياراته .. إلا أنني فوجئت بشخص من المتظاهرين الذين أخذتهم الحماسة والغضب فوقف فوق سيارة ثم أخذ يقفز فوقها بقوة في محاولة لتحطيمها .. لم أتمكن من رؤية السيارة نظراً للزحام الشديد إلا أنني سمعت بعض المتظاهرين يقولون إنها سيارة تابعة للشرطة .. لكن الأمر لم يستمر سوى بضعة ثوانٍ حيث منعه بقية المتظاهرين مرددين الهتاف الشهير "سلمية .. سلمية" فنزل وانضم للمتظاهرين وأكملنا طريقنا باتجاه المستشفى القبطي في سلام ، رأينا فوق كوبري - لا أعرف اسمه - جموعاً من المارة تكتلت لتنظر إلينا .. بعضها كان يؤيدنا والبعض كان يشير بالنفي أي أنه لا يوافق على ما نقول ، بعضهم انضم إلينا والبقية تفرقوا بعد دقائق قليلة .. وكنا بين وقت وآخر نتوقف لنترك الفرصة للمتأخرين أو لآخرين للانضمام إلينا .. فقد كان العدد في ازدياد.
وصلنا إلى المستشفى القبطي ، وعلمت هناك أن (المسئولين) لم يعطوا تصريحاً بخروج سوى أربع جثث أو خمس رغم أن عدد الشهداء كان يزيد عن العشرين.. وذلك لأسباب تتعلق بتصوير الإعلام الذي يأبى (المسئولون) أن يُنقل من خلاله مشهد ضحايا ماسبيرو والتي تدلل على عنف ووحشية العسكر في التعامل مع المتظاهرين ، وذهبت مجموعة من الشباب للتبرع بالدم بينما توقفنا جميعاً لنردد هتافات الوحدة الوطنية .. كانت الفتيات المحجبات يسرن وهن ييرفعن المصاحف من بين صلبان رفعت جميعهاً جنباً إلى جنب حتى أن بعض المسلمات كن يتعمدن رفع الصليب في صورة واضحة لاحترام رموزنا الدينية حتى مع من يختلفون معنا في العقيدة .. فالعقيدة لا تفرق بين مصري وآخر، فجميعنا مصريون وحسب.
أخذنا نكرر نفس الهتافات السابقة مع إضافة هتافات أخرى تنعي الشهيد "مينا دانيال" والذي قتل غدراً من قبل قوات الجيش المصري أمام مبنى ماسبيرو يوم التاسع من أكتوبر ، ولم يضايقني من الهتافات سوى هتاف واحد كان يذكر اسم الرئيس الراحل أنور السادات رحمة الله عليه ذاكرين طريقة مقتله في إشارة إلى ما اعتبره (البعض) انتقاماً إلاهياً مما فعله السادات بالبابا شنودة مذكرين المسئولين بأن الرب يمهل ولا يهمل . كان هذا هوا الهتاف الوحيد الذي أزعجني كثيراً إلا أنه لم يتكرر سوى مرتين ثم لم يكرره أحد بعد ذلك ..وبعد قليل ظهر أمامنا رجل في الثلاثين من عمره ذو لحية متوسطة الطول يرتدي جلباباً بنيّ اللون مما يعطي انطباعاً بأنه أحد السلفيين .. ظهر محمولاً على الأعناق وهو يهتف: "مسلم .. ومسيحي.. ايد واحده" .. فهلل الحاضرون له في تأثر شديد ثم أمسك بصليب رفعه في يد وفي اليد الأخرى كان يرفع المصحف وهو يقول: جئت بعد أن شاهدت الجثث التي شاهدتها والتي جعلتني لا أملك إلا أن أشارك في هذه المسيرة لأننا أبناء وطن واحد ولأن ما حدث هو جريمة بشعة لا يرضاها أي دين .. ونحن جميعاً مصريون ، فصاحت سيدة بجواري: "ربنا يكتر من أمثالك". أخذ ذلك الرجل يردد معنا هتافات كان أبرزها " حط محمد جنب حنا .. مصر بلدنا حتبقى جنة" و " حط صليب ويّا هلال .. كلنا مينا دانيال".
استمرت الوقفة الاحتجاجية بكامل عددها حتى الخامسة والنصف حيث بدأت الأعداد تتناقص نظراً لانصراف البعض إلى حال سبيله بعد أن أدى دوره وشارك كأي مصري في واحدة من أروع مظاهرات ما بعد الثورة .. وقررت أنا الانصراف في السادسة إلا ربع بعد أن قرر باقي المتظاهرين إكمال مسيرتهم إلى التحرير.
كنت لا أدرك في أي شارع أنا ولا كيفية الوصول إلى مترو الأنفاق .. سألت إحدى المتظاهرات عن كيفية الوصول إلى أقرب محطة لمترو الأنفاق فدلتني على الطريق ثم أمسكت بيدي وقالت: "حوصلك بنفسي" .. كانت سيدة مسيحية في أواخر الأربعينات أو أوائل الخمسينات من العمر وكان اسمها "مريم" .. كانت تبدو على ملامحها الأصالة والطيبة المصرية .. وقرأت في عينيها رغبة في إكمال المسيرة مع المتظاهرين إلى التحرير، أخذت ألح عليها في أن تتركني وتذهب خاصة وأنني قد عرفت طريقي "واللي يسأل م يتوهش" ، إلا أنها أصرت إصراراً عجيباً على أن تصحبني بنفسها من أمام المستشفى القبطي وحتى محطة مترو غمرة .. أخذنا نسير قليلاً حتى وجدنا شباباً من المتظاهرين يقفون على ناصية الشارع مانعين دخول السيارات إلى مكان التظاهر مطالبين السائقين بأخذ طريق آخر .. فانبرت السيدة التي أسير معها مخاطبة سائقي السيارات والحافلات: "ارجعوا بدل م يكسروا عربياتكم .. أنا بقولكم اهوه" .. ابتسمْت .. فلم يقم المتظاهرين أبداً بتكسير السيارات التي عبرت إلى جوارنا أثناء التظاهر بل على العكس كنا نفسح لها المجال لتمر في أمان الله . إلا أنني أدرك أنها بفطرتها لم تشأ إخافة السائقين وإنما كانت حريصة عليهم بنفس درجة حرصها على المتظاهرين من عبور سيارة مسرعة وسطهم .. وأثناء تحدثها مع سائقي السيارات مرت بجواري فتاتان محجبتان .. سمعتا ما تقوله السيدة وعرفتا الموقف برمته إلا أنني فوجئت بهما يسألانني: "انتي ماشية معاها ليه؟ دول هوما سبب المشاكل" .. فرددت عليها قائلة: "ليه؟ هيا صهيونية وانا مش واخده بالي؟ دي مصرية زيها زيي" كنت أريد توعيتهما أكثر من هذا وبيان تضليل الإعلام المصري لهما وللكثير مثلهما إلا أن القدر لم يمهلني فقد عادت السيدة لتمسك بيدي ولم أشأ أن أخوض في أمر كهذا مع الفتاتان خاصة وأنه أمر حساس قد يؤثر على السيدة "مريم" بالسلب ..
أكملت معها المسير .. كنا نتجاذب أطراف الحديث حول تضليل الإعلام المصري وتشدد بعض الشيوخ الذين هم السبب الرئيسي في المأساة التي وصلنا إليها من وراء خطبهم المتطرفة المحرضة التي تلهب أتباعهم وتدفعهم لممارسة العنف مع الطرف الآخر دون إعمال للعقل وفي تجاهل لروح الإسلام السمحة التي تأبى العنف والظلم ، أخذت أحدثها عن بعض المواقف التي تعرضتُ لها أنا كمسلمة من بعض المتطرفين المسلمين لأوضح لها أن المشكلة ليست في مصريتهم ولا في دينهم وإنما في فكرهم المبرمج على بعض المبادىء المغلوطة والتي لا يعني الإمعان فيها سوى المواجهات العنيفة حتى مع من هم من نفس دينهم تحت دعاوى تطبيق الشريعة الإسلامية التي لم يفهموها حق الفهم ...
وصلنا أخيراً إلى محطة غمرة بعد أن قطعنا المسافة في قرابة النصف ساعة ، وعرفت وقتها أنها تسكن في الجوار. أخذت تلح علي في ود صادق أن تصحبني معها إلى منزلها لتناول طعام الغداء وأن لديها من سيوصلني حتى منزلي بسيارته .. في الحقيقة لم أشعر أبداً أنها "عزومة مراكبية" لأن الصدق كان واضحاً من صوتها ومما قرأته في عينيها .. شكرتها بحرارة إلا أنني فوجئت بإصرارها على أن توصلني حتى داخل المحطة بنفسها .. وحين وصلنا أخذت تشد على يدي وتدعو لي وفاحتضنتها وقبلتها ثم انصرف كل منا إلى طريقه بعد يوم تجسدت فيه أروع معاني الإخاء والمحبة والوحدة الوطنية رغم جهل بعض المضللَّين الذين أدعو الله أن يهديهم إلى سواء السبيل.

أميمة الشاذلي
12 أكتوبر 2011م
15 من شهر ذي القعدة 1432هـ

06‏/10‏/2011

روح أكتوبر





في هذا اليوم من كل عام أكون في قمة التفاؤل والأمل والإشراق .. ربما لأن هذا هو اليوم المشرق الوحيد في ظلمة الليل السياسي الذي كنا نحياه .. ولكن للأسف لا أدري لماذا لا أشعر بالشيء ذاته هذا العام رغم أنه من المفترض أن يكون أول عيد للنصر بعد ثورة يناير ودون أن نحتفل في ظل وجود قائد الضربة الجوية الذي استطاب لنفسه أن يسرق مكان ومكانة من هو أعظم منه.. إنني حقاً أستغرب شعوري هذا لكن هذا الشعور لم ينبع من فراغ ، بل أعتقد أنه شعور ينبعث من منطلق الواقع السياسي المرير (المائع) الذي نحياه في ظل حكم العسكر للبلاد ، ربما لأن هذه هي المرة الأولى من نوعها التي نرى فيها الوجه المظلم من قمر الحياة العسكرية التي كنا نراها آخر ما تبقى من الأصالة المصرية .. لقد أخطأنا حين حصرنا الشجاعة المصرية في جنود المعارك الحربية .. تماماً كما أخطأنا حين حصرنا الأمل في استقرار البلاد في حكم العسكر لها .. وعلينا أن نواجه أخطاءنا بشجاعة لأننا إن لم نواجهها فسنفعل مثلما فعل الجيل السابق حين رأى أخطاءه وأخطاء حكامه ففضل أن يدفن وجهه في الرمال فابتلعته الرمال.
في ذكرى أكتوبر من كل عام أتذكر أسماء كل من ساهم في هذا النصر وعلى رأسهم أبي الروحي محمد أنور السادات والفريق سعد الدين الشاذلي رحمة الله عليهما .. وهذا هو العام الأول الذي أشعر فيه بأن الناس بدأت تعرف قيمة الفريق سعد الدين الشاذلي رحمة الله عليه . ذلك الرجل الذي لم يمهله القدر ليشهد أول فرحة بنصر أكتوبر دون وجود من محى اسمه وصورته من الإعلام .. ربما لم يمهله القدير حتى لا يشعر بما أشعر به أنا .. بأن المجلس العسكري الذي كان في يوم من الأيام قائد معركة النصر هو ذاته من يقود معركة الأسر للثوار الأحرار.
وهنا لابد وأن أطرح سؤالاً على أعضاء المجلس العسكري: أين كنتم حين شوه مبارك صورة أحد رجالكم الذي يتباهى به العالم أجمع؟ أين كنتم حين سحب منه مبارك كل النياشين والأوسمة وأصدر قراراً بإيداعه السجن؟! أين كنتم يا رجال القوات المسلحة؟! أليس هو منكم؟!
نعم هو من القوات المسلحة لكنه ليس منكم .. فمنكم من تحمونه الآن .. منكم من قام بتعيينكم فحفظتم له الجميل وهيأتم له كل ظروف الرفاهية حتى في سجنه – هذا لو صح أن نسميه سجناً- بعد أن هيأ هو على مدار ثلاثين عام لخراب مصر والذهاب بها إلى حيث لا يعلم إلا الله .. سعد الدين ليس منكم يا من لم تصونوا اسمه ولا وقفتم إلى جواره .. سعد الدين ليس منكم حين تركتم إعلام حاكمكم الأعلى يزيف الحقيقة والصور ليضع مكانها من تحمونه الآن .. سعد الدين ليس منكم .. وإذا كنتم تريدون الآن أن تتظاهروا بتكريمه فقد كرمه الله قبلكم ورفع روحه إلى عليين حيث لا نفاق ولا منافقين.
إن ما يحمل لي بعض العزاء هو محبة الناس لسيادة الفريق رغم ما فعله مبارك من طمس لحقيقته وتشويه لصورته وإهدار لكرامته .. إلا أن الحق يعلو ولا يعلى عليه ودولة الباطل ساعة ولكن دولة الحق إلى قيام الساعة .. وإذا كان مبارك قد محى صورته واسمه من الإعلام فإن التاريخ قد خط اسمه بحروف من نور لن تمحوه ظلمة الظالمين ولا ثلة المنتفعين..
لم أشأ أن يكون مقالي بهذه الكآبة في ذكرى يوم عظيم كيوم أكتوبر ، ولكني اعتدت أن أكتب ما أشعر به . إنني ولأول مرة منذ أن وعيت على هذه الدنيا أشعر أن احتفالات أكتوبر هذا العام جاءت وبالاً على مصر والمصريين .. فلأول مرة تتعطل "عجلة العمل" في البلاد بسبب الاستعراضات الجوية العسكرية !! لم أسمع عن أمر كهذا من قبل .. أعلم أن الاستعراضات تقام سنوياً ولكن لم يسبق أن تسببت في شل حركة الطيران المدني ولا في أن تكون موضوع حديث الناس في الشارع المصري .. وهنا أطرح تساؤلاً كأي مواطن مصري: لماذا تستعرض القوات المسلحة طيرانها في سماء المدن المأهولة بالسكان؟ إذا كان الغرض هو مشاركة المصريين لهم هذا الاحتفال فأود أن أبلغهم آسفة أن أياً من المصريين لم يستمتع ولم يشارك الطيران الحربي في احتفالاته .. فلم إذن تتوقف بسببه "عجلة" العمل؟! أليس هذا ما كنتم تروجون ضده فيما يتعلق بالثورة والثوار؟! ألم تكن تهمتنا حين تمسكنا بحقوقنا هو أننا نعطل "عجلة الانتاج" ؟!! فلماذا لا يرى المجلس العسكري "الموقر" أن في استعراضاتهم الجوية تعطيلاً لعجلة العمل وعرقلة لسير الحياة في مصر بشكل عام؟! ربما ينبري البعض ليقول لي أن هدف هذه الاستعراضات هو إرهاب العدو المتربص بمصر والذي ربما يكون الآن أكثر تربصاً في ظل "الانفلات" الأمني الحالي.. أقول له إذا كان هذا حقاً هو الهدف فلماذا لا تقام هذه الاستعراضات في تلك الأرض التي شهدت المعركة الحقيقية وسالت على رمالها دماء شهداء مصر؟ لماذا لا تقام هذه الاستعراضات في سيناء وهي أقرب مكان للعدو المقصود إرهابه؟! أم أن المجلس العسكري قصد من استعراضاته إرهاب الثوار أعداء "الاستقرار"؟! أم أنه قصد إرهاب الشعب حتى لا يتجرأ بالخروج على الحاكم العسكري ويؤدي له فروض الطاعة والولاء؟!! ما هو القصد من وراء تلك الاستعراضات التي تسببت في تعطيل إقلاع طائرة مدنية إلى إحدى الدول العربية ست ساعات كاملة؟! أجيبوني فلربما اختلط علي الأمر أو أسأت الفهم بشكل أو بآخر.. ولكن لماذا أنتظر الرد من أناسٍ لم يسمعوا سوى صدى صوتهم وصوت من يسبح بحمدهم؟!
إن احتفالنا هذا العام بالقوات المسلحة لن يزيد على ما كان في السنوات الماضية .. فليس للقوات المسلحة الفضل في ثورة يناير حتى ندين له بشيء أكثر مما مضى .. ولقد أعلنها المشير بنفسه أنه لم تأته الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين فممن حمانا المشير ومجلسه (الموقر) حتى نوسع نطاق احتفالاتنا هذا العام؟!! لماذا كل هذه الضجة من أجل الاحتفال بذكرى نصر مضى لم يسبق أن احتفلنا به بمثل بهذه الطريقة؟! ولماذا كل هذه الدعايا الإعلامية للاحتفال بذكرى نصر ماضٍ يكلفنا الكثير من الأموال التي من المفترض أن يتم توجيهها لما هو أولى خاصة وأن أبواقكم تنشر هنا وهناك أن مصر على وشك مواجهة كارثة اقتصادية سببها اعتصامات الثوار (المخربين) .. وكيف يطيب لكم الاحتفال بأكتوبر ودماء الشهداء لم تجف بعد في قلوبنا؟!! كيف يطيب لكم ذلك وأهالي الشهداء لم يقتصوا بعد ممن دهسوا زهرة شباب أبناءهم بأقدامهم الغارقة في وحل الفساد والظلم والاستبداد؟!! كيف طاوعتكم قلوبكم يا قساة القلوب؟!!

من جهة أخرى فإن الحاكم حين يحتفل بذكرى نصر بلاده يبتعد عن أي مواجهة عنيفة بينه وبين شعبه إكباراً وإعظاماً وتقديراً لذكرى النصر الذي يحتفل به ، فلماذا قام المجلس العسكري (الموقر) باستخدام كل أنواع القوة والعنف في تفريق المتظاهرين من أمام ماسبيرو وفي فض اعتصام التحرير في شهر أكتوبر؟! أليس التظاهر أمراً مشروعاً؟ أليس الاعتصام حق يكفله القانون ؟! هل صار التحرير ملكاً لقوات حفظ (النجيلة)؟!! أليس هذا هو الميدان الذي قلتم عنه من قبل: عودوا إليه متى شئتم ومتى شعرتم أن صوتكم لا يصل إلى الحاكم وأن مطالبكم لا تتحقق؟!! إننا لم نفعل إلا ما أردتم من قبل ولكننا اكتشفنا أنكم كنتم تقولون هذا لامتصاص قوة الثورة ثم أخذتم في تنفيذ مخطط جهنمي لإضعاف الثورة حتى إجهاضها .. ولكنكم أخطأتم حين ظننتم أننا يمكننا أن نقبل بإجهاض ثورتنا .. لا والله فلن نهدأ ولن نكلّ أو نملّ حتى تحكم الثورةُ البلادَ أو نهلك دونها.
وحين أتحدث عن قمع الثورة لابد وأن أذكر قمع الإعلام الحر المحترم .. لماذا قمتم بمنع افتتاح قنوات جديدة وقمتم بغلق قناة كل ذنبها أنها قدمت الواقع المصري من وجهة نظرها دون فبركة للأحداث أو للصور بزعم أنها لا تحمل التراخيص اللازمة لبقائها! بل وقمتم بتهديد كل القنوات التي تعارض حكم العسكر بشكل أو بآخر ، وبفرض رقيب عسكري على الصحافة ..في الوقت الذي تركتم فيه سفهاء الإعلام يرتعون ويروّجون للشائعات ويخوّنون المواطنين كيفما شاءوا؟! أين روح الثورة منكم؟! بل أين روح أكتوبر يا من تتفاخرون بانتصاركم ؟!! أليس النصر يعني الحرية؟ لماذا تحتفلون بذكرى حرية أرض ووطن في الوقت الذي تحتفلون فيه بقمع حرية المواطن؟!!
لا أدري كيف بدأت مقالي ولا بماذا يتعين علي أن أختم!! فقد قلت كل ما يعتمل في صدري.. ولكني اعتدت دائماً أن أبث التفاؤل في قلبي قبل أن أبثه في قلوب الآخرين .. لن أيأس .. سأظل أذكر أكتوبر كأمجد حرب عسكرية قامت بها قواتنا المسلحة .. لكنني لن أتقهقر في الوقت ذاته عن حربي من أجل وطن حر بلا قيود تعرقل مسيرة التقدم والنجاح والارتقاء بمصر لمستقبل أفضل .. سأجعل من كل أغنية وطنية أستمع إليها اليوم حافزاً يدفعني إلى الأمام .. سأجعل من كل مشهد لدماء شهيد سالت على أرض سيناء المباركة وقوداً لمعركة الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية ..سأستلهم من روح أكتوبر كل معاني التفاني والجسارة التضحية والإخلاص والفداء فإما أن أشارك في تحقيق الحلم المصري وإما أن ألحق بركاب شهداء الوطن.

أميمة الشاذلي
فجر السادس من أكتوبر 2011م
الثامن من شهر ذي القعدة 1432هـ