12‏/10‏/2011

الكاتدرائية رايح جاي



كان يوماً عظيماً من أيام مصر .. ليست حرباً انتصرنا فيها على عدو .. ولكنها مسيرة تجلت فيها أجمل معاني الحب والإخاء .. إنها مسيرة العباسية التي انطلقت في العاشر من شهر أكتوبر من أمام الكاتدرائية المرقسية للتنديد بالمجزرة التي تم ارتكابها بشأن متظاهري ماسبيرو والذين كان غالبيتهم من المسيحيين الذي جاءوا ليطالبوا بإعادة بناء الكنيسة التي تم هدمها من قبل بعض الجهلة الذين ظنوا أنفسهم يد الله في الأرض أو يد قانون لا يعرفون منه سوى اسمه.
بدأت رحلتي من أمام الكاتدرائية المرقسية بالعباسية حوالي الساعة الثالثة .. كان بعض الشباب قد تطوعوا لتنظيم دخول المصلين وكانوا يطالبون كل من يدخل برفع يده حتى يشاهدوا الصليب لأن هذه كنيسة للصلاة وليست ساحة للتظاهر .. ولم يدخل من المسلمين سوى الصحفيين أو الصحفيات .. في الحقيقة لم أشأ دخول الكنيسة احتراماً للموقف ؛ لكي أفسح المجال لمن أتى للصلاة .. فهم أولى مني بالدخول وليس من الجيد أن أتزاحم معهم من أجل سبق صحفي أو تسجيل مع أناس يؤدون شعائرهم الدينية.
انتظرت حوالي نصف ساعة أو تزيد حتى سمعت صوت هتافات تخرج من داخل الكنيسة ، وكانت هذه هي اللحظة التي أنتظرها .. خرجت جموع غفيرة ما كنت أتخيل أن الكنيسة تستوعبها .. خرجت ومن بينهم كانت رؤوس الفتيات المحجبات بارزة تهتف معهم بصوت واحد ورحت أهتف مع الجميع: "يا نجيب حقهم.. يا نموت زيهم" .. كان هذا هو الهتاف الرئيسي الذي خرجنا به من محيط الكنيسة في طريقنا إلى المستشفى القبطي .. أخدنا نسير جنباً إلى جنب .. وبرغم الغالبية المسيحية التي أسير وسطها لم أشعر بالغربة .. كان الكل ينظر إلي نظرة محبة وإخاء وتأبى شفاههم البسمة كما يأباها حزني وغضبي ونحن في مسيرة جنائزية كهذه .. كانت جموع غفيرة تقدر بالآلاف إلا أنني لا أملك مهارة تحديد العدد .. كنا نهتف بصوت واحد وبرغم الغالبية المسيحية لم أسمع هتافاً طائفياً أو يخص المسيحين وحدهم باستثناء هتافين رددوهما قليلاً "بالروح .. بالدم .. نفديك يا صليب" و "ارفع راسك فوق انت قبطي" .. وكنت أردد الهتاف الأخير معهم حيث إنني أعتبر نفسي كبقية المصريين قبطية .. فكلمة قبطي لا تشير إلى ديانة وإنما كانت تطلق قديماً على أهل مصر جميعاً ومنها جاءت كلمة مصر بالانجليزية، أما بقية الهتافات فكانت للوحدة الوطنية ولسقوط العسكر والمشير وللمطالبة بأخذ الثأر من القتلة .. وكان من بين تلك الهتافات: "مسلم ومسيحي ايد واحده" ، "لينا اخوات مسلمين .. ع اللي بيحصل مش راضيين" و "يسقط يسقط حكم العسكر .. احنا الشعب الخط الأحمر" .
كنا نسير سيراً لا أستطيع أن أقول عنه إنه سير بطيء إلا أنه جعل المتظاهرين ينقسمون إلى نصفين تقريباً مما دفعنا إلى التوقف حتى نعط الفرصة للمتأخرين لللحاق بنا .. وفوجئت وأنا في سيري بالناشطة السياسية "نوارة نجم" وسرنا معاً .. كان يبدو عليها الإجهاد إلا أن هذا لم يمنعها من أن تنبري بهتافات رددها وراءها المتظاهرون كانت تتبلور حول فكرة تعنت العسكر وعنفهم مع بني وطنهم في الوقت الذي لا نسمع لهم صوتاً عند الحدود ولم نر لهم ردة فعل مشرفة للأخذ بالثأر ممن قتل جنودنا هناك ، كما هتفت بسقوط المشير والمجلس العسكري وطالبت بالثأر لمن قُتل يوم التاسع من أكتوبر. وكان إلى جوارنا أيضاً سيدة مسيحية نحيفة كان ترتدي الأسود ويبدو عليها التأثر كما لو كانت من أهل أحد شهداء ماسبيرو .. كانت تنتحب وتهتف بصوت مبحوح: " وحياة دمك يا شهيد .. لالبس اسود من جديد". في الحقيقة لم أكن أرتدي الأود .. فقد فضلت أن أرتدي حجاباً بألوان علم مصر وكان اللون الرئيسي فيها هو الأحمر في دلالة على الدماء التي كنا وما زلنا نبذلها في سبيل تحقيق حلمنا الثوري "عيش.. حرية .. عدالة اجتماعية".
أكملنا السير بنفس الحماسة وفي وسط الطريق كان على الجهة الأخرى من الشارع تسير السيارات بعضها كان يحيينا بمزمار سياراته .. إلا أنني فوجئت بشخص من المتظاهرين الذين أخذتهم الحماسة والغضب فوقف فوق سيارة ثم أخذ يقفز فوقها بقوة في محاولة لتحطيمها .. لم أتمكن من رؤية السيارة نظراً للزحام الشديد إلا أنني سمعت بعض المتظاهرين يقولون إنها سيارة تابعة للشرطة .. لكن الأمر لم يستمر سوى بضعة ثوانٍ حيث منعه بقية المتظاهرين مرددين الهتاف الشهير "سلمية .. سلمية" فنزل وانضم للمتظاهرين وأكملنا طريقنا باتجاه المستشفى القبطي في سلام ، رأينا فوق كوبري - لا أعرف اسمه - جموعاً من المارة تكتلت لتنظر إلينا .. بعضها كان يؤيدنا والبعض كان يشير بالنفي أي أنه لا يوافق على ما نقول ، بعضهم انضم إلينا والبقية تفرقوا بعد دقائق قليلة .. وكنا بين وقت وآخر نتوقف لنترك الفرصة للمتأخرين أو لآخرين للانضمام إلينا .. فقد كان العدد في ازدياد.
وصلنا إلى المستشفى القبطي ، وعلمت هناك أن (المسئولين) لم يعطوا تصريحاً بخروج سوى أربع جثث أو خمس رغم أن عدد الشهداء كان يزيد عن العشرين.. وذلك لأسباب تتعلق بتصوير الإعلام الذي يأبى (المسئولون) أن يُنقل من خلاله مشهد ضحايا ماسبيرو والتي تدلل على عنف ووحشية العسكر في التعامل مع المتظاهرين ، وذهبت مجموعة من الشباب للتبرع بالدم بينما توقفنا جميعاً لنردد هتافات الوحدة الوطنية .. كانت الفتيات المحجبات يسرن وهن ييرفعن المصاحف من بين صلبان رفعت جميعهاً جنباً إلى جنب حتى أن بعض المسلمات كن يتعمدن رفع الصليب في صورة واضحة لاحترام رموزنا الدينية حتى مع من يختلفون معنا في العقيدة .. فالعقيدة لا تفرق بين مصري وآخر، فجميعنا مصريون وحسب.
أخذنا نكرر نفس الهتافات السابقة مع إضافة هتافات أخرى تنعي الشهيد "مينا دانيال" والذي قتل غدراً من قبل قوات الجيش المصري أمام مبنى ماسبيرو يوم التاسع من أكتوبر ، ولم يضايقني من الهتافات سوى هتاف واحد كان يذكر اسم الرئيس الراحل أنور السادات رحمة الله عليه ذاكرين طريقة مقتله في إشارة إلى ما اعتبره (البعض) انتقاماً إلاهياً مما فعله السادات بالبابا شنودة مذكرين المسئولين بأن الرب يمهل ولا يهمل . كان هذا هوا الهتاف الوحيد الذي أزعجني كثيراً إلا أنه لم يتكرر سوى مرتين ثم لم يكرره أحد بعد ذلك ..وبعد قليل ظهر أمامنا رجل في الثلاثين من عمره ذو لحية متوسطة الطول يرتدي جلباباً بنيّ اللون مما يعطي انطباعاً بأنه أحد السلفيين .. ظهر محمولاً على الأعناق وهو يهتف: "مسلم .. ومسيحي.. ايد واحده" .. فهلل الحاضرون له في تأثر شديد ثم أمسك بصليب رفعه في يد وفي اليد الأخرى كان يرفع المصحف وهو يقول: جئت بعد أن شاهدت الجثث التي شاهدتها والتي جعلتني لا أملك إلا أن أشارك في هذه المسيرة لأننا أبناء وطن واحد ولأن ما حدث هو جريمة بشعة لا يرضاها أي دين .. ونحن جميعاً مصريون ، فصاحت سيدة بجواري: "ربنا يكتر من أمثالك". أخذ ذلك الرجل يردد معنا هتافات كان أبرزها " حط محمد جنب حنا .. مصر بلدنا حتبقى جنة" و " حط صليب ويّا هلال .. كلنا مينا دانيال".
استمرت الوقفة الاحتجاجية بكامل عددها حتى الخامسة والنصف حيث بدأت الأعداد تتناقص نظراً لانصراف البعض إلى حال سبيله بعد أن أدى دوره وشارك كأي مصري في واحدة من أروع مظاهرات ما بعد الثورة .. وقررت أنا الانصراف في السادسة إلا ربع بعد أن قرر باقي المتظاهرين إكمال مسيرتهم إلى التحرير.
كنت لا أدرك في أي شارع أنا ولا كيفية الوصول إلى مترو الأنفاق .. سألت إحدى المتظاهرات عن كيفية الوصول إلى أقرب محطة لمترو الأنفاق فدلتني على الطريق ثم أمسكت بيدي وقالت: "حوصلك بنفسي" .. كانت سيدة مسيحية في أواخر الأربعينات أو أوائل الخمسينات من العمر وكان اسمها "مريم" .. كانت تبدو على ملامحها الأصالة والطيبة المصرية .. وقرأت في عينيها رغبة في إكمال المسيرة مع المتظاهرين إلى التحرير، أخذت ألح عليها في أن تتركني وتذهب خاصة وأنني قد عرفت طريقي "واللي يسأل م يتوهش" ، إلا أنها أصرت إصراراً عجيباً على أن تصحبني بنفسها من أمام المستشفى القبطي وحتى محطة مترو غمرة .. أخذنا نسير قليلاً حتى وجدنا شباباً من المتظاهرين يقفون على ناصية الشارع مانعين دخول السيارات إلى مكان التظاهر مطالبين السائقين بأخذ طريق آخر .. فانبرت السيدة التي أسير معها مخاطبة سائقي السيارات والحافلات: "ارجعوا بدل م يكسروا عربياتكم .. أنا بقولكم اهوه" .. ابتسمْت .. فلم يقم المتظاهرين أبداً بتكسير السيارات التي عبرت إلى جوارنا أثناء التظاهر بل على العكس كنا نفسح لها المجال لتمر في أمان الله . إلا أنني أدرك أنها بفطرتها لم تشأ إخافة السائقين وإنما كانت حريصة عليهم بنفس درجة حرصها على المتظاهرين من عبور سيارة مسرعة وسطهم .. وأثناء تحدثها مع سائقي السيارات مرت بجواري فتاتان محجبتان .. سمعتا ما تقوله السيدة وعرفتا الموقف برمته إلا أنني فوجئت بهما يسألانني: "انتي ماشية معاها ليه؟ دول هوما سبب المشاكل" .. فرددت عليها قائلة: "ليه؟ هيا صهيونية وانا مش واخده بالي؟ دي مصرية زيها زيي" كنت أريد توعيتهما أكثر من هذا وبيان تضليل الإعلام المصري لهما وللكثير مثلهما إلا أن القدر لم يمهلني فقد عادت السيدة لتمسك بيدي ولم أشأ أن أخوض في أمر كهذا مع الفتاتان خاصة وأنه أمر حساس قد يؤثر على السيدة "مريم" بالسلب ..
أكملت معها المسير .. كنا نتجاذب أطراف الحديث حول تضليل الإعلام المصري وتشدد بعض الشيوخ الذين هم السبب الرئيسي في المأساة التي وصلنا إليها من وراء خطبهم المتطرفة المحرضة التي تلهب أتباعهم وتدفعهم لممارسة العنف مع الطرف الآخر دون إعمال للعقل وفي تجاهل لروح الإسلام السمحة التي تأبى العنف والظلم ، أخذت أحدثها عن بعض المواقف التي تعرضتُ لها أنا كمسلمة من بعض المتطرفين المسلمين لأوضح لها أن المشكلة ليست في مصريتهم ولا في دينهم وإنما في فكرهم المبرمج على بعض المبادىء المغلوطة والتي لا يعني الإمعان فيها سوى المواجهات العنيفة حتى مع من هم من نفس دينهم تحت دعاوى تطبيق الشريعة الإسلامية التي لم يفهموها حق الفهم ...
وصلنا أخيراً إلى محطة غمرة بعد أن قطعنا المسافة في قرابة النصف ساعة ، وعرفت وقتها أنها تسكن في الجوار. أخذت تلح علي في ود صادق أن تصحبني معها إلى منزلها لتناول طعام الغداء وأن لديها من سيوصلني حتى منزلي بسيارته .. في الحقيقة لم أشعر أبداً أنها "عزومة مراكبية" لأن الصدق كان واضحاً من صوتها ومما قرأته في عينيها .. شكرتها بحرارة إلا أنني فوجئت بإصرارها على أن توصلني حتى داخل المحطة بنفسها .. وحين وصلنا أخذت تشد على يدي وتدعو لي وفاحتضنتها وقبلتها ثم انصرف كل منا إلى طريقه بعد يوم تجسدت فيه أروع معاني الإخاء والمحبة والوحدة الوطنية رغم جهل بعض المضللَّين الذين أدعو الله أن يهديهم إلى سواء السبيل.

أميمة الشاذلي
12 أكتوبر 2011م
15 من شهر ذي القعدة 1432هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق