23‏/03‏/2011

غزوة الصناديق


كان كيوم عيد ..

بل كان حقاً عيداً للحرية ..

فلأول يوم صار من حق المصري أن يقول كلمته وبمنتهى الحرية دون أن يعلم مسبقاً نتيجة الاستفتاء .. هذا لو سُمح له بالاختيار من الأساس.

مر اليوم المبارك والناس جميعاً تتحاكى بالمغامرة الجديدة التي خاضوها .. وماذا اختاروا ولماذا .. وكل منهم يرفعه اصبعه المصبوغ الذي يدل على مشاركته في الاستفتاء... ومر اليوم في سلام..

كان هذا يوم التاسع عشر من شهر مارس عام 2011م

وبعد يومين .. أي وفي العشرين من نفس الشهر فوجئت بأبرز شيوخ السلفية في مصر وهو الشيخ محمد حسين يعقوب يتحدث بمنتهى الفخار عن النصر المبين الذي أكرمهم الله به في نتيجة الاستفتاء على الدستور!!! أكرر مرة أخرى.. الاستفتاء على الدستور!!!

بدأ هذا الرجل كلامه بالحديث عن أهل البدع وأن السلف الصالح كانوا يقولون لأهل البدع "بيننا وبينكم يوم الجنائز" .. أي أن عدد الناس الذي سيتبعون الجنازة يوم وفاة أي منا هو الذي سيحكم من الصالح فينا!!

ثم بدأ بالتكبير وأمر الناس في المسجد بالتكبير كتكبيرة العيد!! كما لو أن الأمر تحول من مجرد استفتاء على مواد معدلة من دستور البلد إلى تحرير البلد من محتل غاشم! أو كما لو كان هذا اليوم هو يوم تحرير المسجد الأقصى!

ثم قال بأن الناس في كل مكان في الإعلام المصري متخوفون من أن يدخل الدين في كل شيء..... من قال هذا الكلام أصلاً؟! الناس حين تحدثوا قصدوا ما تفعله أنت وأمثالك من إقحام الدين في أمور سياسية بحتة ليس فيها رأي لأهل الدين .. ولكن لم ينكر أحد عن وجوب تخلق السياسة بخلق الدين .. فالدين أكبر من مجرد أن ينحصر في سياسة يختلط فيها الصواب بالخطأ أحياناً كثيرة .. ولكن لا دخل للدين في أمور السياسة لا خوفاً من الدين ولكن خوفاً عليه وعلى رجاله حتى لا يتلوث الدين بالسياسة حين يصبح ستاراً وراء أطماع سياسة كما شاهدنا ذلك في إيران.. وذلك بغض النظر عن السنة والشيعة ولكنني أتحدث من حيث المبدأ .. وكما حدث هذا في بلاد عربية أخرى أصدرت الفتاوى بتحريم المظاهرات لإرضاء ملوكهم. والتي هي في الإسلام حق التعبير عن الرأي دون الخروج عن الأدب .. بلى وأفتى البعض بأن هذا من باب الخروج على الحاكم!! كل هذا لمنع قول الحق الذين هم أنفسهم لم يجرؤا على قوله في وجه حكامهم وكان هذا هو الدور الذي يجب أن يؤدوه بدلاً من منع الناس عن قوله.. ولكننا نجدهم دائماً إما يتجنبون الحديث عن رؤسائهم وملوكم أو ينافقونهم بشتى الطرق بما في ذلك استخدام الدين ، ولا ننسى هنا قصة دخول أمريكا الخليج العربي لتخليصهم من العراق لأول مرة حين اجتمع أهل الفتوى وأذكر منهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله مفتي الديار السعودية والذي هو أستاذ الشيخ محمد حسين يعقوب .. حيث اجتمع مع علماء آخرين من أجل التشاور في رأي الدين في التدخل الأمريكي فما كان منهم إلا الرضى عن ذلك بكلام لن أذكره الآن ولكن للقارىء الحق في التأكد منه في الوثائق التاريخية .. ها هي صورة من صور استعانة السياسة بالدين من أجل تبرير ما تفعله .. ورحم الله الإمام الشيخ الشعراوي (والذي أساءت الوهابية الأدب في الحديث عنه) حين قال: "أتمني أن يصل الدين إلي أهل السياسة.. ولا يصل أهل الدين إلي السياسة".ا

أنتقل إلى النقطة التي تليها وهي أنه قال: " الشعب بيقول نعم للدين " وهنا استهجن الكثيرون قولي تعليقاً على ما قاله بالجهل وأن من يقول ذلك فهو جاهل.. ولكنني أعود وأكرر أن من قال هذا جااااهل..وهذا ليس من باب السب كما اعتدنا في لهجتنا العامية على قولها.. ولكن من باب التوصيف. فما علاقة الدين بمواد دستورية؟! إن من قال نعم إما قالها رغبة فيما توهمه باستقرار سريع إذا ما وافق ، وإما لأنه مقتنع تماماً بأن المواد الدستورية هي في صالح مصر ، وإما سيراً وراء الإخوان أو من يدعون السلفية .. هذه هي الأسباب التي دفعت الغالبية العظمى لقول نعم.. وليس للدين دخل في هذا الشأن .. لا أدري كيف صور له خياله أن قول نعم له علاقة بالدين.. ما شأن مدة الرئاسة أو شروط الترشح أو غيرها من المواد المعدلة بالدين؟! وإذا كنت تقصد المادة الثانية فإنني أؤكد على أنها محفوظة في الحالتين وأن البابا شنودة نفسه قال بأنه لا ينبغي المساس بها .. إذن فقولك أن المصريين قالوا نعم للدين هو أمر لا ينم إلا عن جهل بالدستور وبالسياسة وعلاقة الدين به.

"واللي يقول دي بلد خلاص منعرفش نعيش فيها.. انت حر.. ألف سلامة.. عندهم تأشيرات كندا وأمريكا" !! من أعطاه الحق في أن يطرد أو يدخل من شاء؟! ولماذا اتهم كل من قال لا مخالفاً لنعم حتى ولو كان من باب التخوف من السلفية أو الإخوان أنه يريد الخروج من بلاده؟ هل قامت الثورة –التي لم يشارك فيها – من أجل طرد المصريين من ديارهم؟! هل هذه هي الحرية والديمقراطية التي لا تفهم معناها؟ هل هذا هو الدين الذي تتحدث به هنا وهناك؟! لا يا حضرة.. لن يخرج أحد منا من مصر بعد أن قمنا بثورة عرضنا فيها أنفسنا للموت من أجل أن نحيا فيها كراماً آمنين.

ثم وبعد كل السموم التي بثها يعود لتحدث عن سلامة الصدر!!

ثم يعود ليقول: "أن من قال لا عرفوا مقامهم وعرفوا قدرهم وعرفوا قدر الدين وبفضل الله ميزاننا اللي علي"!!

هل هذا هو الأدب الذي دعا إليه الدين؟!!؟

نعم .. حقاً لقد عرف كل منا مكانه وقدره.. فنحن ننآى بأنفسنا عن سبكم وأنتم تتعمدون إهانة كل من خالفكم.. عرفنا مكاننا ومقامنا حين أعلن كل من قال "لا" أنه سيتقبل نعم بصدر رحب ولن يشكك في نيته وسنسعى جميعاً للسير بمصر قدماً ... هذا هو رأي من قال "لا" ويشترك في ذلك المسلمون والمسيحيون ..

ثم تحدث عن أن "القضية مش قضية دستور" .. وادعى كذباً بأن "كل أهل الدين بلا استثناء قالوا نعم"!! من أنت حتى تتحدث عن "كل" أهل الدين؟ هل هناك منظمة تجمع كل أهل الدين وأصدرت بياناً بأنهم جميعاً قالوا "نعم" ؟! بل على العكس تماماً.. إن الهيئة الدينية الرسمية المعترف بها والوسطية في مصر كلها هي الأزهر الشريف.. ومفتي الديار المصرية أعلنها صراحة أنه لن يقول رأيه في التعديلات الدستورية حتى لا تؤخذ منه على أنها فتوى .. وكان هذا هو رأي شيخ الأزهر كذلك.. وتركا الأمر لكل مصري حسبما يرشده عقله .. فلماذا إذن لم تخرج "علماء الأزهر والذين يمثلهم شيخ الأزهر ومفتيه" من قولك "كل أهل الدين"؟! إلا إذا كنت لا تعترف بأنهم رجال دين.

وأتبع كلامه بقوله أنه إذا ما قال رجال الدين نعم فيجب أن نقول نعم وإلا "شكلك حيبقى وحش قوي"!! هذا هو الجهل بعينه حين تدخل الدين في مسألة عقلية بحتة لا علاقة لرجال الدين فيها فكل رجل دين حين يقول نعم أو لا يمثل نفسه كمصري لا كرجل دين .. ثم لمح إلى أن من قال لا "ناس تانية" وكان من الواضح من كلامه أنه يقصد المسيحيين وبعض الفنانيين "العلمانيين الوحشين الشريريين " الذين أعلنوا بأنهم سيقولون "لا" .. إن قوله هذا لهو أكبر دليل على إدانته ومحاولته إثارة فتنة طائفية –لن تحدث بإذن الله- وهو يعلم جيداً أن كلامه مسموع ومرئي من كل المصريين والفضل يعود لوسائل الإتصال الحديثة .. هل هذا هو الإسلام الذي أمر بإفشاء السلام؟! هل هذا هو الإسلام الذي أمر بالتأدب حتى حين الإختلاف مع الآخرين؟! هل هذا هو الإسلام يا رجل الدين؟!!!؟

ثم فرضاً أن طرحت مسألة لها علاقة بزراعة الأرض أو بتقنيات الصناعة الحديثة.. هل إذا ما اجتمع "أهل الدين" على كيفية الزراعة أو أسلوب التجارة يوجب على البقية أن توافق على كلامهم؟!! ما علاقة هذا بذاك؟! فليسأل أي منكم دار الإفتار في هذا الشأن وسيجيبونكم بأن هذا أمر يجب العودة فيه لخبراء الزراعة والصناعة.. لا لرجال الدين. هذا هو إقحام الدين فيما ليس له فيه .. هذا هو خلط الدين بالسياسة..هذا هو الجهل الذي قصدته والذي أعنيه . وأذكر هنا حادثة تلقيح النخل التي حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي مَرَّ بقوم يلقحون. فقال: «لو لم تفعلوا لصلح». قال ‏فخرج شيصا. فمر بهم، فقال: «ما لنخلكم؟». قالوا: قلت كذا وكذا. قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» ، وفي رواية أخرى: «إنما أنا بشر. إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر» هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم خير البرية فما بالك بمن يدعي أنه من رجال الدين بل ويريد من الناس أن تسير وراءه في أمر لا يخص الدين أساساً .. وأقول هذا كأزهرية مثقفة سليلة عائلة أزهرية من "أهل الدين". ا

ثم قال " احنا بتوع الدين" !! من قال بأنكم "بتوع الدين"؟! هل اقتصر الدين عليكم؟! هل الإسلام سلفي وحسب؟! إذن فماذا يفعل رجال الأزهر؟!

ثم ختم كلامه في هذا الشأن بقوله: "متخفوش خلاص! البلد بلدنا" !!! هل اقتصرت مصر على احتضان السلفية ؟! لا والله..

لَعَمرُك ما ضاقت بلاد بأهلها ** ولكن أخلاق الرجال تضيقُ

ستظل مصر مجمعاً لكل الأديان والتيارات والمذاهب ومنبراً للحوار والتسامح وقلباً يسع الجميع بما فيهم السلفية أنفسهم الذين يريدون من كل من يتضايق منهم أن يخرج خارج بلاده إن لم يعجبه الحال ..

أختم قولي هذا بالتأكيد على أن ردي هذا ليس بهدف الدفاع عن كوني ممن قال "لا" .. وأؤكد أني حتى لو كنت قلت نعم فسأدافع عمن قال "لا" وعن اتهام هذا الرجل لهم بنفس الطريقة وبنفس القوة .. وهذه هي الديمقراطية الحقة . هي أن أختلف مع الآخرين ولكني أبذل حياتي في سبيل إعطائهم الحق للتعبير عن رأيهم .. وهذا قبل أن يكون مبدأ الديمقراطية فهو مبدأ الإسلام الذي في ظلاله عاش اليهودي أمام بيت نبي الإسلام .. بل وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرهن درعه عند يهودي ... هذا هو الإسلام الذي يحاول تشويهه الكثيرون من المسلمين.. للأسف الشديد

.

أميمة الشاذلي

23/3/2011م

18/4/1432هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق